إن الجواب عن سؤال من نحن، هو بالضرورة الجواب عن سؤال الهوية الكونفدرالية، الشيء الذي يستهدف بدوره استحضار مرجعيتنا النقابية، كنقابة جماهيرية تقدمية ديمقراطية وحدوية، كمؤطر للائتلاف و الاختلاف، يهدف إلى انجاز مهمتنا النضالية التاريخية، و تقوية بنائنا التنظيمي لبلورة إطارنا النقابي بشكل يتجسد فيه البديل الذي كنا و لا نزال دائما نطمح إلى بنائه من خلال رؤية تنظيمية تنسجم و هويتنا الكونفدرالية من جهة، و نستثمر إيجابا التحولات المجتمعية التي عرفها و يعرفها مجتمعنا المغربي في العشرية الأخيرة، خاصة و أن الصيغ التنظيمية التي اعتمدناها، تأسست على قاعدة الحفاظ على الذات في ظروف التضييق و التفكيك الممنهج الذي اعتمدته - و لازالت- الدولة و آلياتها منذ ما يزيد عن نصف قرن.
إننا كنقابة تقدمية مناضلة، في مجتمع تعرف ظروفه الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية تغيرا دائما، و تعرف فيه ميادين الصراع الفكري و السياسي و الاجتماعي و الثقافي تقلبات مستمرة في أشكالها و مضمونها، نؤمن بالديمقراطية ، و نرفض كل أشكال الجمود الفكري و التنظيمي، و نعتمد التحليل التاريخي و الجدلي لواقعنا المعيش، و هكذا فإن تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في نونبر 1978، لم يكن وليد الصدفة التاريخية، بل كان مفكرا فيه، و عن وعي تام بالدور التاريخي الذي يجب أن يقوم به المناضلون التقدميون، و كان امرأ مرتبا له من قبل بأزيد من عقد من الزمن عن تاريخ ولادتها - على الأقل - ، لان ذلك جاء استجابة لحاجة تاريخية إلى تنظيم نقابي تقدمي بديل، أي الحاجة إلى تنظيم نقابي له رؤية سياسية و اجتماعية تخدم مشروعا مجتمعيا وطنيا تحرريا ديمقراطيا يوجد على النقيض التام للمشروع المخزني الرجعي الاستبدادي و التحكمي، القائم اقتصاديا على التبعية للدوائر الاقتصادية و المالية الدولية التي تخدم الامبريالية العالمية، و سياسيا على الاستبداد و التحكم و القمع الممنهج لكل الحقوق و الحريات الأساسية، كحرية الرأي و التعبير، و الحق في التنظيم النقابي، و ثقافيا على التمييع و الخلط بين ما هو ماضوي رجعي و ما هو مادي تحديثي شكلي.
جاءت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل - كذلك - استجابة لحاجة إلى تنظيم نقابي قوي قادر أن يقف في وجه الانزلاقات الخطيرة التي عرفها المغرب منذ أواسط الستينيات إلى أواخر السبعينيات، و المتمثلة في السياسات الرسمية المتبعة في العديد من المجالات الاقتصادية و السياسية و الثقافية، بدءا من الإجهاز على ممتلكات الشعب المغربي و مقدرات البلاد تحت مسمى " مغربة " القطاعات الحيوية، و هي سياسة عملت على خلق طبقة برجوازية هجينة على حساب فقرمجموع المواطنين، و ذلك من خلال توزيع أجود الأراضي الفلاحية على "المعمرين الجدد"، مع تمتيعهم بكل الضمانات من اجل الاستفادة من القروض البنكية دون أدنى قيد أو شرط، كما عمد الحاكمون، من خلال أجهزة الدولة، إلى خلق و دعم تنظيمات حزبية اقل ما يمكن أن توصف به، هو أنها ليست إفرازا طبيعيا للمجتمع، و لا تستجيب لأية ضرورة أو حاجة سياسية مجتمعية، كما عمدت الجهات الرسمية خلال هذه الفترة إلى التضييق الممنهج على الحريات و الحقوق الأساسية، كحق الاجتماع و التنظيم، و حرية الرأي و التعبير و غيرها من الحقوق و الحريات، مما شكل تراجعا خطيرا على مستوى الحريات و الحقوق مقارنة مع فترة بداية الاستقلال، فهذه الفترة موصومة بالاختطافات و الاعتقالات و المحاكمات الصورية بعشرات الآلاف، صدرت عنها احكام صورية قاسية، لقد استوجبت حقا وصف " سنوات الجمر و الرصاص".
إن هذه الأجواء الموبوءة التي سادت مغرب الستينيات و السبعينيات، و المواقف المتخاذلة للجهاز النقابي آنذاك، فرضت على المناضلين الوطنيين التقدميين التفكير في ضرورة خلق تنظيم نقابي تكون فضاءاته متنفسا نقيا و حقيقيا لكل المناضلات و المناضلين، يتمكنون فيه و من خلاله أن يناقشوا بكل حرية أفكارهم و أفكار غيرهم دون رقيب ولا حسيب، كما يتمكنون بواسطته و من خلاله مواجهة كل ما يحاك ضد مصالحهم و مصالح الفآت العريضة من أبناء الشعب المغربي.
هكذا و في هذه التربة بذرت بذرة لقحت بأفكار الذين رحلوا من أمثال المهدي بنبركة و عبد الرحيم بوعبيد و عمر بنجلون و غيرهم من الأفذاذ، و كذا بأفكار العديد من الشرفاء من أبناء هذا الوطن الذين لازالوا على قيد الحياة، و أنبتت نبتة رأت النور في نونبر 1978 ، لتصبح اليوم شجرة ثابتة اسمها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل و عمرها يزيد عن ثلث قرن من الزمن النقابي المغربي.
إن المهام التاريخية التي أسست من اجلها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، و التي حددها المؤسسون الأولون و سار على نهجها من جاء من بعدهم من المناضلين الشباب، تحققت في شقها التنظيمي الذي يقضي بضرورة خلق تنظيم نقابي كونفدرالي – ومعه التنظيمات القطاعية المنضوية تحت لوائه - يحمل مشروعا مناهضا للمشروع المخزني في أبعاده الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية، كما أنها تحققت في شقها النضالي و الكفاحي من خلال الملاحم البطولية التي خطها المناضلون الكونفدراليون بدمائهم و تضحياتهم و معاناتهم، هم ورفاقهم و رفيقاتهم و ذويهم على طول مسار دربهم الطويل المليء بالعديد من النجاحات، و بالضرورة ببعض الإخفاقات كأي تجربة انسانية، الشيء الذي أثمر العديد من المكاسب القطاعية و الكونفدرالية، تمثلت أهمها في فرض المفاوضات و انجاز العديد من الاتفاقيات الجماعية، سواء في القطاع العام أو الخاص.
كما شكلت مسيرتها البطولية هذه، الصخرة التي تكسرت و تتكسر عليها المكائد و المؤامرات الدنيئة التي كانت - ولا تزال - ترمي إلى المس بمصداقيتها و مصداقية مناضليها، أو الطعن في استقلاليتها سواء عن الدولة و أجهزتها، أو عن كل من يسخرها لأجندته الضيقة، كما تصدت لكل من كان يرمي إلى العبث بتنظيماتها القطاعية أو الكونفدرالية.
لكن هذه المهام التاريخية لم تكتمل في شقها السياسي الذي يرمي إلى تأسيس مجتمع الديمقراطية و حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها كونيا، و يرمي كذلك إلى تحرير الأرض من براثن الاستعمار، و تحرير الإنسان من الاستغلال و القهر، حيث لا زالت الديمقراطية لم تتحقق بعد، رغم ما انتزع من مكتسبات، كما أن الإنسان ما زال مستغلا، مقهورا و مضطهدا، و الأرض لم تكتمل السيادة عليها. كما أن هذه المهام لم تكتمل في شقها الاجتماعي الرامي إلى تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية تضمن العيش الكريم لكل المغاربة على قدم المساواة، دون تمييز مجالي أو فئوي أو عرقي آو غيره من أشكال التمييز غير الايجابي.
إن عدم اكتمال المهام التاريخية التي من اجلها تأسست الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، راجع لمعيقات و صعوبات موضوعية أكثر مما هي ذاتية، مما يجعل الحاجة ملحة أكثر إلى هذا التنظيم المرتبط عضويا و موضوعيا بأوسع الفآت الشعبية المقهورة، و المعبر عنها وعن مطامحها و آمالها و آلامها، في ظل التراجع الخطير الذي يعرفه المشهد الحزبي المغربي، علما أن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لم تأت بديلا عن آي تنظيم حزبي، و تعتبر أن مهامها غير مهام الأحزاب، و إن كانت تتقاطع معها في العديد من القضايا ذات الصبغة السياسية او الاقتصادية او الثقافية او غيرها، كما انها تعتبر تنظيمات اليسار الديمقراطي التقدمي حليفا موضوعيا لها و للتنظيمات المنضوية تحت لوائها .
ان القول البعض بان الكونفدرالية الديمقراطية للشغل قد استنفذت مهامها التاريخية هو قول عار من الصحة و مجانب للصواب، بل فيه ما فيه من التجني و الخذلان و خدمة لخصوم الطبقة الكادحة و الشغيلة المغربية و عموم الأجراء، و لكل التواقين الى ارساء مجتمع الحرية و الكرامة والعدالة الاجتماعية، لان الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لم تهادن قط و لم تساوم أبدا و لم تحد عن خطها الكفاحي البتة، و ذلك على طول مسيرتها النضالية، و يشهد لها بذلك تاريخها المجيد، دونما الحاجة إلى شهادة أي كان.
إن مواقف الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في العديد من القضايا الوطنية و الدولية لا تملى عليها من أية جهة كانت، بل هي نابعة من قناعات مناضليها على اختلاف مشاربهم الفكرية و السياسية و الإيديولوجية، يتداولون فيها فيما بينهم، ويقارعون الحجة بالحجة، ويقنع بعضهم بعضا، ليخلصوا في الأخير إلى قرارهم، كأي منظمة تقدمية ديمقراطية، و الكونفدرالية الديمقراطية للشغل " لا تتخذ من القرارات إلا ما تحسن الدفاع عنه " ، و عندما تتخذ القرار فإنه يكون ملزما للجميع ، و على الجميع الالتزام به و الدفاع عنه، و إلا صار من غير الكونفدراليين.
فمواقف الكونفدرالية الديمقراطية للشغل سواء من الوقائع و الاحداث التي عرفتها المنطقة المغاربية و منطقة الشرق الأوسط، أو بالنسبة لمجريات الأحداث الوطنية على طول تاريخها السياسي، أثبتت حصافة رأيها و دقة قراءاتها و تحليلاتها، فكان موقفها دائما مع تحرر الشعوب و حقها في اختيار من يحكمها دون أدنى تدخل أجنبي في شؤونها الداخلية، سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو مصر و تونس و ليبيا أو غيرها من الدول، و لهذا أدانت العدوان الأمريكي الامبريالي على العراق و أفغانستان و الصومال و سوريا، كما كانت مواقفها من القضايا الوطنية واضحة لا لبس فيها و لا مواربة، كموقفها من الدستور الممنوح الذي قاطعته، مثلما كان موقفها من الانتخابات الأخيرة المتحكم سلفا في نتائجها، و التي أفرزت حكومة لا تحكم، و لا تجيد سوى التملص من الالتزامات السابقة و إثقال كاهل المواطنين بالقرارات اللاشعبية و ما ينتج عنها من نتائج سلبية.
لقد عرفت الثلاث سنوات الأخيرة من الزمن السياسي المغربي، عقد مؤتمرات العديد من التنظيمات الحزبية و النقابية و الجمعوية، و رأى الجميع كيف تدخلت أجهزة الدولة في هذه المؤتمرات – على حسب أهمية و قوة التنظيم – و أفسدتها بتحكمها فيها و في نتائجها و عينت من يسيرها، و هذا ما صرح بها المنتسبون إليها، و وثقوه و سلموه للإعلام، بل منهم من التجأ إلى القضاء وطعن في كل شيء بدءا من لوائح المؤتمرين وصولا إلى النتائج، و قد تتبع الجميع هذا المسلسل المخجل من التدخلات السافرة لأجهزة الدولة في السير العادي للأحزاب و الجمعيات و النقابات، فإذا كانت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، كأقوى مركزية عمالية بالمغرب، قد عقدت مؤتمرها الخامس فان الكونفدراليون يعلمون علم اليقين أن هذه الأجهزة الدولتية كانت تتابع عن كثب كل ما يرشح من معلومات عن التحضير، و كما صرح الكاتب العام الأخ محمد نوبير الأموي في كلمته أمام اللجنة التحضيرية بأننا لا نحضر لهذا المؤتمر لوحدنا و أن هناك العديد ممن يتابعوننا، فإنه حذر من مغبة التدخل السافر في شؤوننا، من أي كان شأنه، و بأننا سنتصدى له جميعا بكل الوسائل و السبل المشروعة المتوفرة لدينا، و هكذا استطاع الكونفدراليون و الكونفدراليات بفضل نضجهم و تحليهم بالوعي التاريخي الذي بفضله نميز بين ما هو استراتيجي و ما هو تكتيكي، بين الحليف و الخصم، بين الذات و نقيضها، أن ينجحوا مؤتمرهم و ينتخبوا أجهزتهم و يفوتوا الفرصة على المتربصين بهم، لذا فعلى جميع المناضلات و المناضلين الكونفدراليين الالتفاف دوما و أبدا حول مركزيتنا المناضلة و تقوية تنظيماتها لتصليب عودها، حتى ننجح كل المعارك التي تنتظرنا سواء النضالية أو التمثيلية و كذلك التصدي لكل الممارسات السلبية و الهدامة من حلقية و تخاذل و غيرها من تلك التي تسيء لماضينا المجيد حتى لا يحصل ما لا نرضاه و " يرتد السلاح إلى الخلف" .
الرئيسية
أنشطة مختلفة
القطاع العام
المؤسسات العمومية
القطاع الخاص
مكتبة الكونفدرالية
الشكايات
فيديوهات
إحصائيات الموقع
الاثنين 09 دجنبر 2024
زوار الموقع | |
الان : 1 | اليوم : 26 |
المجموع : 199567 |